سورة التوبة - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)}
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} ما صحّ لهم ما استقام {أَن يَعْمُرُواْ مساجد الله} يعني المسجد الحرام، لقوله: {وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} وأما القراءة بالجمع ففيها وجهان، أحدهما: أن يراد المسجد الحرام، وإنما قيل مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها؛ فعامره كعامر جميع المساجد، ولأن كل بقعة منه مسجد.
والثاني: أن يراد جنس المساجد، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها، دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته وهو آكد، لأنّ طريقته طريقة الكناية، كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله، كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك. و{شاهدين} حال من الواو في {يَعْمُرُواْ} والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة متعبدات الله، مع الكفر بالله وبعبادته. ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر: ظهور كفرهم وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة ويقولون: لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطاً سجدوا لها. وقيل: هو قولهم لبيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك. وقيل: قد أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر فعيروهم بالشرك، فطفق عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول. فقال العباس: تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا. فقال: أو لكم محاسن؟ قالوا: نعم ونحن أفضل منكم أجراً. إنا لنعمر المسجد الحرام. ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج ونفك العاني، فنزلت {حَبِطَتْ أعمالهم} التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة. وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها، فما ظنك بالمقارن. وإلى ذلك أشار في قوله: {شاهدين} حيث جعله حالاً عنهم ودلّ على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة، وذلك محال غير مستقيم.


{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله} وقرئ بالتوحيد: أي: إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتداً بها، والعمارة تتناول رمّ ما استرمّ منها، وقمها وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، ومن الذكر درس العلم، بل هو أجلّه وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلاً عن فضول الحديث، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة» وفي الحديث: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» وقال عليه الصلاة و السلام: «قال الله تعالى: إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زوّاري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره» وعنه عليه الصلاة و السلام: «من ألف المسجد ألفه الله» وقال عليه الصلاة و السلام: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان» وعن أنس رضي الله عنه: (من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه).
فإن قلت: هلاّ ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لما علم وشهر أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام لاشتمال كلمة الشهادة والأذان، والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن صاحبه، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول عليه الصلاة و السلام. وقيل: دلّ عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؟ فإن قلت: كيف قيل: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} والمؤمن يخشى المحاذير، ولا يتمالك أن لا يخشاها؟ قلت: هي الخشية والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله غيره لتوقع مخوف، وإذا اعترضه أمران: أحدهما حقّ الله، والآخر حق نفسه أن يخاف الله، فيؤثر حقّ الله على حقّ نفسه. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها، فأريد نفي تلك الخشية عنهم {فعسى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسن لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها، بأن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع مع استشعار الخشية والتقوى، اهتداؤهم دائر بين عسى ولعل، فما بال المشركين يقطعون أنهم مهتدون ونائلون عند الله الحسنى. وفي هذا الكلام ونحوه لطف للمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء ورفض الاغترار بالله تعالى.


{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)}
السقاية والعمارة: مصدران من سقى وعمر، كالصيانة والوقاية. ولا بدّ من مضاف محذوف تقديره {أَجَعَلْتُمْ} أهل {سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ ءامَنَ بالله} تصدقه قراءة (ابن الزبير وأبي وجزة السعدي) وكان من القراء: {سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام}، والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، وأن يسوي بينهم. وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر.
وروي أن المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود: أنتم أفضل. وقيل: إن علياً رضي الله عنه قال للعباس: يا عمّ ألا تهاجرون، ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ألست في أفضل من الهجرة: أسقي حاجّ بيت الله، وأعمر المسجد الحرام، فلما نزلت قال العباس: ما أراني إلاّ تارك سقايتنا. فقال عليه السلام: «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8